(قصة قصيرة)
ابتلع (نادر) ريقه وهو ينظر في رهبة إلى ذلك البيت المسكون..
كم من حكايات مفزعة سمعها عن هذا البيت والذي يتكون من ثلاث طوابق خالية من البشر..
فطوال إقامته في منزل عائلته المجاور لم يرى زائراً أدمياً واحداً يدخل إليه.. ولكنه الآن سيفعلها..
أخذت عيناه القلقتين والمذعورتين تتفحصان البيت مرة ثانية، كان كما قلنا سابقاً يتكون من ثلاث طوابق ولونه أحمر!..
أحمر قاني أصبح باهتاً مع الزمن..
كان البيت قد صمم ليكون شققاً للإيجار ولكنه ولسبب لم يعرفه أحد لم يسكن فيه بنو البشر إلا عاماً واحداً وبعد ذلك خرج سكانه..
ربما كان سبب ذلك _كما تقول الإشاعات_ هو رغبة المالك في إجراء بعض التعديلات عليه، ولكن المالك بعد ذلك توفي ومن وقتها وهذا البيت مهجور وخالي من دفء الحياة، ومع كل تلك السنين ومع إهمال الورثة أصبح بيتاً خرباً لا يسكنه سوى الهوام والقطط السوداء و...
والجن..
نعم الجن.. أليس اسمه البيت المسكون؟..
لقد صار منزلاً مسكوناً ليس بالبشر بل بسكان من عالم آخر...
عالم لم يكشف عنه كامل الستار..
فلازال الستار يستر الكثير من الخبايا وراءه...
ولأن (نادر)
كبر بجوار هذا البيت والفضول ينهشه لمعرفة ما يدور بداخله، قرر أخيراً أن يجازف ويدخله خصوصاً أنه أصبح كبيراً كفاية ليتحدى الخوف، فهو البارحة فقط قد أتم السابعة عشرة عاماً ويحفظ أجزاءً كثيرة من القرآن الكريم...
كانت الشمس تنتظر نصف ساعة لتغيب، فقرر أن هذا هو أنسب وقت لدخوله طالما انه لا يزال هناك بصيص من نور الشمس وأذان المغرب لم يحن بعد..
ولكن صوت عاقل خفي أخبره بأن الغد أفضل والشمس حينها ستكون ساطعة..
إلا انه أدرك أنه إن لم يدخله الآن فلن يفعلها أبداً..
وهكذا حسم أمره فنظر صوب المنزل الأحمر الباهت وسحب نفساً عميقاً ليطرد رعشة خفية أرجفت قلبه..
كانت الشمس تنتظر نصف ساعة لتغيب، فقرر أن هذا هو أنسب وقت لدخوله طالما انه لا يزال هناك بصيص من نور الشمس وأذان المغرب لم يحن بعد..
ولكن صوت عاقل خفي أخبره بأن الغد أفضل والشمس حينها ستكون ساطعة..
إلا انه أدرك أنه إن لم يدخله الآن فلن يفعلها أبداً..
وهكذا حسم أمره فنظر صوب المنزل الأحمر الباهت وسحب نفساً عميقاً ليطرد رعشة خفية أرجفت قلبه..
في تلك اللحظة هبت نسمة عليلة من هواء مدينة (أبها) الساحرة بالمملكة العربية السعودية فغمرت نفسه بالطمأنينة والانتعاش..
وعند هذا الحد ذكر اسم الله واتجه ليدخل البيت الأحمر المسكون ليعيش المغامرة والرعب..
وليروي فضوله..
فضوله الأحمق...
مد يده في رهبة ليدفع الباب الموارب الصدئ فصدر منه صوت أتلف أعصابه..
إنه صوت أي باب قديم يحترم نفسه، صوت صرير مزق ثقة (نادر) الزائفة..
فهل يتراجع؟..
بالطبع لا فقد عزم أمره وانتهى..
أصبح الباب مفتوحاً على مصراعيه فحاول (نادر) أن يرى مافي الداخل قبل أن يدخل..
فوجد تحت نور الشمس الخافت كومة من الغبار والأخشاب منتشرة على أرضية مدخل المنزل، بالإضافة إلى طبقة خفيفة من الغبار أخذت تتراقص أمام عينيه في الهواء والشمس تجسد ذراتها أكثر..
أمعن النظر فوجد رواق مظلم مهيب..
مط شفتيه في امتعاض وضيق ثم أخرج من جيب معطفه مصباح يدوي صغير بشكل قلم، لم يتوقع أنه سيحتاج إليه فنوافذ البيت محطمة وتستطيع أشعة الشمس الدخول إليه بسهولة مما سيغسل رهبة المكان من نفسه، ولكن الممرات الداخلية بعيدة عن مرمى الشمس، لذا حمد الله على أنه أحضر هذا المصباح اليدوي معه احتياطاً..
مد قدمه إلى الأمام فداست على مجموعة من الأوساخ لا يدري ماهي..
ولكن صوتها كان موتراً وكأنها موسيقى تصويرية تضيف نكهة مرعبة على المكان..
هتف (نادر) بحنق لنفسه:
-وكأن المكان ينقصه المزيد من الرعب..
سحب نفساً عميقاً واستطرد قائلاً:
-أين روح المغامرة لديك؟!. أنه بيت كمئات البيوت...
ولكنه كان يدرك في قرارة نفسه أنه ليس كباقي البيوت إلا أنه قال ذلك فقط ليبعد الرهبة عن نفسه..
وفوق ذلك أخذ يذكر نفسه بأن له شخصية قوية لطالما حسده الكثيرون عليها..
هنا سار بثقة وهدوء ليغوص في أعماق ذلك المنزل أكثر فأكثر..
كان الرواق مظلماً ولكن مصباحه قام بكشف طلاسم المكان فرأى (نادر) في نهايته مدخل يوجد به بابين أحدهما على يمينه والآخر على يساره بالإضافة إلى سلم حجري يقود للأعلى..
توقف ليفكر في أي تجاه يذهب؟..
قال في نفسه:
-لن أصعد إلى الأعلى الآن.. على معرفة طبيعة المكان من الدور السفلي أولاً..
نظر حوله وقد عزم أمره فاتجه إلى باب الشقة الأيسر..
وهناك بدأ يشعر ببرودة غريبة..
يبدو وكأن في المكان طاقة ما..
إحساس غريب سيطر عليه ليشعر وكأن العشرات من الأعين تنظر إليه..
سار بخوف وهو يشعر بخيط من الجليد يزحف على عموده الفقري، لذا أخذ يتلو بلسان مضطرب بعضاً من آيات الكتاب الكريم..
توغل إلى الداخل أكثر فوجد صالون فسيح تنتشر فيه أبواب تقود إلى غرف عدة..
في تلك اللحظة غابت الشمس وكأنها لا ترغب أن تلعب دوراً على مسرح الأحداث والتي يبدو أنها أثارت خوفها فغابت لتترك (نادر) يستمد دفئه من مصباحه اليدوي الصغير..
لم يشعر بمغيبها حتى بعد الظلمة التي أخذت تزداد كثافة وذلك لشدة اضطرابه..
فجأة سمع صوت خافت وعندما أنصت سمعه أكثر وجده صوت صلاة المغرب القادم من المسجد الموجود في حيهم، ولكنه لم يسمع الأذان بوضوح من قبل..
تعجب من ذلك.. كيف لم ينتبه لصوت الآذان منذ البداية؟!..
ولكنه لام نفسه على هذا التساؤل الغبي، فمنزل عائلته وهذا البيت المسكون موجودين على ربوة في نهاية الحي فضمنت لهم بعض الخصوصية التي أحبها والده..
ولكنه الآن تمنى لو كان منزل عائلته أكثر اتحاداً مع بيوت الحي..
تساءل بذعر:
-كيف مرت نصف ساعة وأنا لا أدري؟!.
أخذ يقرأ ويرتل بصوت أعلى آيات قرآنية وهو يدخل الغرف واحدة تلو الأخرى، حتى اعتادت نفسه على المكان وأصبح لسانه يقرأ بشكل أكثر طمأنينة..
لم تعد أذناه تسمع أي شيء مما جعله يدرك بأن الصلاة قد انتهت، وهذا ولد في نفسه بعض من الوحدة والخوف فقد كان صوتها يؤنس وحدته، تمنى لو كان متوضأً ليصلي فيطهر غربة هذا المكان..
فجأة سمع صوت أقدام تسير في الغرفة التي أمامه..
انتفض برعب ودون أن يشعر أخذ يقرأ بصوت أعلى المزيد من الآيات القرآنية وبقلب مطمئن بالإيمان برغم الخوف الذي اعتراه..
كان ذلك الصوت يعلو أكثر و أكثر..
حتى أصبح كالضجيج في أذنيه فأخذ يرتجف هلعاً والذعر يفتت أوصاله..
أراد أن يهرب..
ولكن الرعب جعله يتخبط في أرجاء المكان، مرة يركض شمالاً ومرة جنوباً...
أخذ يهتف في أعماقه فزعاً:
-ما أقوى هذا الصوت أكاد أموت..
شعر برعب شديد وكأن النار ستنتشر في لحمه وتلتهمه حياً..
أراد أن يخرس هذا الصوت القوي بسرعة قبل أن يجن هلعاً..
فصرخ بأقوى ما عنده وبرعب شديد.. فخرج صوته حاداً متألماً وهو يقول:
-يكفيييي.. اصمت.. اصمت .. اصمت.. آآآآآآآه..
انتفض (نادر) في مكانه برعب حقيقي، أخذ يتلفت حوله بسرعة متسائلاً بصوت مذعور لم يتعدى شفتيه:
-ما هذا الصراخ؟.. إنه.. إنه بالفعل بيت مسكون..
أخذ يركض بساقين عجزت عن حمله، فجد سيره ولسانه وقلبه يذكران اسم الله وهو يوقن بأن الحكايات لم تكن كاذبة..
بل إنها صحيحة..
فلا يوجد دخان بلا نار..
وهناك رأي الباب الذي سيخرجه من هذا المكان المخيف..
فجرى..
وجرى..
وجرى..
وأخيراً خرج ليصفق وجهه هواء الليل البارد..
فأخذ (نادر) يملأ رئتيه بالهواء عله يغسل ما علق به من خوف..
ثم تذكر ذلك الصراخ الذي أمره بالصمت فانتفض في مكانه وركض بذعر نحو منزل عائلته الحبيب والمجاور..
وهو يقسم في نفسه أيماناً مغلظة بأنه لن يدخل هذا البيت المسكون أبداً.. أبداً..
وفي داخل تلك الغرفة في ذلك البيت المسكون تنفس الجني الصعداء لخروج (نادر) أخيراً..
بعد أن كاد يحترق ويموت ذعراً، بسبب ذلك الصوت القوي والذي أخذ يقرأ آيات من القرآن الكريم فكانت كالضجيج في أذنيه حتى كاد أن يودي بحياته وحياة إخوانه من الجن..
واللذين شكروا له حسن تصرفه لصراخه في الوقت المناسب على ذلك الإنسي بأن يصمت..
لقد كان ذعرهم أشد من ذعر (نادر)..
وكم تمنوا ألا يعود ذلك الإنسي لبيتهم قط..
ليعيشوا بسلام بعيداً عن كل هذا الرعب...
* * * *
11 التعليقات:
رااااااااااااائعة.
فكرة جديدة ومبتكرة والنهاية كانت مفاجئة وغير متوقعة وفن القصة القصيرة بيدو واضحاً للعيان أنت حقاً مبدعة
بالتوفيق الدائم
عصام
قصه جميلة وأسلوب جميل
مع العلم أني لا أحب الرعب ولكن قرأتها حتى النهاية .
وفقك الله
أسعدني أن اعجبت قصتي القصيرة كل من الأخ عصام والمميزة فضاء امرأة.. واتمنى أن تنال كلماتي دائماً على رضى الجميع..
وياأخت فضاء سرّني أنه رغم كونك تخافين من القصص المرعبة إلا أنك واصلتي وأتمنى أن تفعلي بالمثل مع رواياتي المرعبة التي هي أساس سلسلة عوالم..
أهلاً بك دوماً في عالمي..
اختي العزيزة نادية
بداية ... اود ان اسجل امتناني لشخصك الكريم على دعوتك الجميلة لاكتشاف عالمك
اكتشف مدى روعة هذا العالم التي يستمدها من روعة ما تخطه اناملك
ندخل في الموضوع كما يقول البهنساوي
( اعلم بانك لا تعرفين البهنساوي .. و لا انا .. مين البهنساوي ده !!؟ )
:)
قد تكون خبرتي القليلة في عالم القصة القصيرة لا تؤهلني لنقد عمل أدبي .. ولكن
" من أشد ذعرا ؟" عمل اراه مكتمل العناصر من حيث الحبكة و السرد و البناء
عمل استطاع ببراعة ان يشد القارئ بلا تكلف
استعمال المفردات جاء موفقا جدا
لذا استطعت ان تنقلي القراء - و انا منهم - من كرسيه الذي يقابل شاشة الكمبيوتر الى زوايا البيت المسكون
ختاما
اختي نادية .. انت مبدعة
حفظك الرحمن
نورت عالمي ياأخ عثماني..
لدرجة شعرت معها بأن البيت المسكون لم يعد كذلك..
يسعدني نقدك البناء لقصتي القصيرة ويسعدني أكثر أنك زرت عالمي واستمتعت به..
أتمنى دائماً أن تتابع أعمالي فهذا يدخل السرور إلى قلبي.. وأتمنى أن تسعدك هذه التجربة تماماً كما أشعر بالسعادة عندما أتصفح مدونة عثماني.. جبلة.. الرائعة..
تحياتي لك..
وتمنياتي القلبية لك بطول العمر والصحة والعافية..
وسلامي للبهنساوي.. مين البهنساوي ده!!
أسلوبك الساخر في الكتابة ممتع إلى أبعد حد مزيداً من الإبداع يا أخي الفاضل عثماني..
أهلاً بك ضيفاً مميزاً على عالمي..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اولا
أود أن أبدي رأيي ومن ثم إعجابي وأخيرا إبداعك.
حقيقتا القصة كانت من الواقع وكثيرا ما تحصل مع الناس
وهذا مايميز الكاتب أو الكاتبة
وفي الحقيقة أنا شخصيا من محبي القصص الواقعية
المشتقة من حياتنا وهذا ماجذبني وشدني لهذه القصة الرائعة رغم بساطتها وعدم التكلف فيها
أما بالنسبة لكاتبها
أو بالأصح كاتبتها المبدعة
فتعجز الحروف والصفحات بل الدواوين عن وصف مدى إبداعك ورقة إسلوبك وتناغم الأحداث في القصة
بصراحةإستمتعتي وأمتعتي وأبدعتي
فهنيئا لكي بما وهبتي.
(أعجبني إختيارك للإسم نادر حيث أننا لم نعهد عليه كثيرا في القصص والروايات وهذه فكرة جميلة وأيضا الإسم يمتلك من المميزات الجميلة الكثيرة)
تقبلي بساطتي وأعذري عجزي بوصفك أيتها الرائعة
أخيك: (الملهم )
الأخ الملهم.. أهلاً بك..
نورت عالمي وأسعدني استمتاعك بالقصة وإن كنت من عشاق الرعب الحقيقي فستجد منه الكثير في كتابي سلسلة عوالم الذي سيكون متوفراً قريباً إن شاء الله في المكتبات..
أشكر لك كلماتك الرقيقةالتي اسعدتني وبالنسبة لاسم نادر فهو بالفعل اسم جميل ونادر..
تقبل تحياتي وأهلاً بك قارئ مميزاً على عالمي..
ناديه الغاليه على قلبي ..~
سماء الحرف أنتِ .. ومداد قلمكِ مطر الخير ..
قصه رائعه جداً جداً جداً.. تنذر بليلة مليئه بالكوابيس هههههه
قصه الخوف صعبه .. ولكن وصفك فاق كل أركانها ..
ندو الصديقه الرائعه دوماً ..
قُبلة تُدَس وسَطَ القلب ..
قبلتك وصلت يا تراتيل الحبيبة وبإذن الله لاتصادفك كوابيس بل أحلام سعيدة وأسعدني أن أمتعتك القصة في جميع انحاء البيت المسكون..
أبعث لك بقبلة محبة وأنا أتساءل هل بإمكان المرء أن يقابل أناس يتمنى مقابلتهم حقاً؟!.
بالرغم من بعد المسافة إلا أني أتمنى ..
سلامي لوالدتك وأختك وجميع من تحبين..
مبرووكـ لموضوع "من أشد ذعراً"
حصوله على المركز الأول ..
فعلاً تدوينه تستحق التتويج فهي حقاً رااائعه كروعة قلم الكاتبه الذهبيه ..
نادية ..
لعل الأيام تُخبئ لنا لقاء لم يخطر على قلوبنا .. وخالقي أتمنى ذلك ..
ندو .. دنوْتِ وسط القلب وتربعتِ ..
شكراً لتهانيك الطيبة..
وكلماتك دائمة تصيبني بنشوة ساحرة..
من يدري من نقابل ومن لانقابل!.
ربما قد يكون!.
حينها سأتذكر هذه الأسطر بالتأكيد..
دمتي بكلماتك الساحرة..
إرسال تعليق